٢٠٠٦-٠٩-٠٩

قراء نقدية لقصة " ذات سفر" بقلم الناقدة رحاب الخطيب

هذه قراءة نقدية لقصتي " ذات سفر" .. بقلم الناقدة رحاب الخطيب ، وقد نشرت في عدة مجلات ومواقع الكترونية .. وفي الصفحة الخاصة بالناقدة في موقع القصة العربية

" كان الفجر جميلاً .. وهو ينشر ضوءه على التلال البعيدة "

أديبنا الذي يقدم لنا الحدث بذكاء حاذق يعرضه بأسلوب يشدنا إلى كل كلمة وهمسة وحرف في القصة .. بحيث نتابعها بشغف حتى نهايتها .. لنشعر بأننا بحاجة إلى قراءتها من جديد وجديد .. وفي كل مرة نكتشف شيئاً جديداً ، ونقف عند همسة أو حرف أو كلمة لنصل إلى بعد أعمق .. وأعمق .
بدأ أديبنا أبو حلتم قصته بصوت القطار المتوالي بانتظام ..والسماء الملبدة بالغيوم الكثيفة الرمادية اللون ليعبر بذلك عن حالتي الركود والملل اللتان تفردان أجنحتهما على نفس البطل ، الشخصية الرئيسة في القصة .. فحالة الطقس من ثلج وبرد لها بعدان .. الأول حقيقي والآخر مجازي ، فالحقيقي أنه بعد أن غادر الوطن مكرهاً ذهب إلى بلاد الصقيع .. أما الآخر فهو صقيع الروح بفراق الأحبة .. فالحياة رتيبة والبرد يتغلغل في ثنايا الروح ..
وهكذا .. فمشاهد القصة تجري في أبعاد مختلفة من خلال تذكر أو استرجاع أحداث جرت مع بطل القصة قبل سنوات .. لكنها ما زالت تسيطر على عقله وقلبه ..
وقد استطاع أديبنا وبمهارة فائقة أن يتنقل بين أحداث القصة الدائرة في زمنين .. الماضي والحاضر ، بقدرة عجيبة استطاع من خلالها أن يعرض ماضي البطل المناضل وحاضره المثقل بالأصقاع وألم الغربة ..
فالغربة بالنسبة إليه .. سهول ثلج ورتابة متعبة ..أما الوطن .. فالشمس مشرقة فيه ..وهذا ما عبر عنه أديبنا عندما انتقل بنا إلى بعد القصة الثاني " الماضي " ..أثناء عرضه لمشهد وجود البطل في جامعته بين أصدقائه .. وأحبابه .. يحتضن الوطن بذراعيه .. فقد كان للوجود معنى .. وهذا يظهر من خلال التعبير الذي أبداه البطل بقوله :
( الشمس مشرقة هذا الصباح .. وها أنا أسير في الجامعة ببطء بين مجموعات الطلبة .. الأشجار تبدو لامعة ونضرة .. ) .. فحتى البرد في الوطن ..برد يرافقه وجود شمس دافئة .. والمطر يغسل ويطهر المكان .. أما في الغربة .. فالثلج يغطي المكان ، واللون رمادي كما الروح ..
وهنا عرض أديبنا ماضي البطل .. وما يجري في جامعات الوطن المحتل من التزام وعمل جماعي ..واع .. ومثمر يهدف لسمو الوطن الذي يسمو بهم ولهم ..فالأحداث تجري .. وكلّ يعمل على تقديم أقصى ما يستطيع ..
وقد أشار أديبنا في قصته إلى أحداث تاريخية هامة من تاريخ الشعب المقاوم ..حيث قدم لنا " يوم الأرض " الذي يصادف 31/3 من كل سنة ..يوم من الأيام الحمراء الخالدة التي لم تغب عن ذهن الوطن ..
ثم انتقل الكاتب إلى زنازين الاعتقال .. حيث يعذب المناضلون بأبشع الوسائل .. وأقلها أن يعلق المناضل ويمنع من النوم أياماً طويلة .. لا لشيء سوى حبه لوطنه ..
وبعدها ينتقل أديبنا بحسن تخلص بارع إلى مشهد آخر .. ألا وهو الوداع .. فراق الوطن والأهل والأحبة .. فراق الروح !
( شوق جارف يجتاحني ) .. وحين قال ( الجنود يقتادونني بعيداً .. انظر خلفي .. أحاول احتضان وطني بعيني .. )
هذا هو قدر بطلنا ..أن تظل الصورة مرسومة لا تمّحي .. فالمنفي يحتضن الوطن بعينيه .. بعد أن عجز عن احتضانه بيديه ..مشهد مؤلم يعتصر القلب .. استطاع كاتبنا أن يوصله لنا بأسلوب غاية في الدقة والإبداع ..فهو يعرض لنا الحدث ويستطيع ببراعة أن يشعرنا بما يريد بأسلوب بعيد عن المباشرة .. فيأتي التأثير قوياً .. نريد أن نصرخ .. أن نبكي .. لكنه ببراعة ينقلنا إلى أمل يظهر دائماً جلياً .. في كتابات أديبنا المبدع ( القصصية والشعرية ) .. بل نجده في أكثر من مكان في القصة .. ولا يتركنا إلا وبصيص الأمل الذي نحتاجه بين أيدينا ..
( انظر إلى الشمس وهي تبرز من وراء الأفق .. أتنهد بعمق وأهمس .. نعم يا حبيبتي .. يجب أن نكون أقوى من المنفى .. وأقوى من الموت .. ! . )
وهذه سمة من السمات البارزة والتي تتضح جلية في كتابات أديبنا منذر .. والتي إن عبرت فهي تعبر عن قدرة مبدعة في الكتابة .. وخلق الأمل .. فهو لا يتركنا والآلام تعتصرنا .. بل يعطينا الأمل بالشروق بعد الغروب .. وبالفجر بعد الظلام ..!
ومن الجدير بالذكر .. ومن خلال متابعة شخوص أاديبنا في جميع قصصه وفي هذه القصة بالذات موقفه من المرأة .. فهو يعرض موقف الفتاة الواعية الناضجة التي تعمل جنباً إلى جنب مع الشاب المناضل الواعي .. لخدمة الوطن وتحريره .. وهي نظرة غاية في الروعة .. فالمرأة في نظر كاتبنا ليست مجرد دمية جميلة يتسلى بها .. أو على هامش الحياة .. بل إن موقعها الحقيقي هو إلى جانب الرجل .. في الحياة بكافة جوانبها ..
أما عن عناصر القصة لدى أديبنا .. في ( ذات سفر ) .. فالمكان يجري في بعدين .. ( القطار المسافر في الغربة ) .. و ( الوطن من خلال استرجاع أحداث وذكريات تجري في أماكن مختلفة من الوطن ) ..
أما الزمان .. فهو أيضا يجري في بعدين …( الحاضر .. زمن المنفى ) و ( الماضي .. زمن ما قبل المنفى ) ..
أما الشخوص .. فشخصية البطل الرئيسة وشخصية الفتاة .. وما ذكر عن الطلاب والجنود .. وركاب القطار .. كشخصيات ثانوية فرعية ..هذه الشخوص تتحرك في القصة بتناغم وانسجام يتناسبان مع سير القصة بأبعادها المكانية والزمانية ..
أما العقدة أو الحبكة ..فلم تأت بالشكل المباشر لأن العقدة تكون أكثر وضوحا في الرواية منها في القصة القصيرة .. ولا يشترط وجودها في القصة .. ( خاصة في القصة الحديثة ) . ومع هذا فإن أحداث القصة جاءت متسلسلة منطقية معبرة بأسلوب شيق منقطع النظير ..
النهاية جاءت محكمة الصياغة شيقة تشعر القارئ أنه في حاجة إلى البدء بقراءة القصة من جديد ..
أما صور القصة فهي جميلة قوية .. تعبر عن حالات الألم والرتابة والملل الذي عايشه بطل القصة في الغربة .. كما أن الصور جاءت مشرقة نابضة عذبة .. عندما تحدث عن الوطن .. وشمسه المشرقه ..!
أسلوب القصة جاء شيقاً .. من حيث التعامل مع أحداث القصة بأبعادها وأزمانها ..بأسلوب غير مباشر ..كلل القصة بثوب جميل أعطى القارئ فرصة التخيل ..والتحليق بأفكاره ..وخيالاته ومشاعره .. وبهذا فقد استطاع الكاتب ان يعبر عما يريده وبنجاح كبير ..
في النهاية .. فالقصة .. وبأجماع القراء قصة ناجحة .. لأديب متميز نتمنى أن نقرأ له المزيد والمزيد .. وبحيث نستفيد منه ومن رسالته التي أثقل بها كاهله ..
لأديبنا منذر أبو حلتم كل التحية والتقدير ..على أدبه المتميز الملتزم .

ليست هناك تعليقات: